مكتب المحامي ايمن احمد الحسون

قصص وحكايات تتفطر لها القلوب في أروقة محاكمنا الشرعية

إن العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن .. وإن مما يكوي الفؤاد ، ويهدّ النفس هدّا ..هذا الذي نراه منبثا في أروقة المحاكم الشرعية ، من خلال قصص وحكايات ، يشيب لها الولدان ، وتتفطر ـ من هولها ـ القلوب . تدخل المحكمة : فيتلقفك الخصوم .." لحظة من فضلك ، أغلــْــبك هويتك ..." ، ثم ينثال عليك ـ إن شئت ـ سيل من الحكايا ، ينتفض لها قلبك "كما انتفض العصفور بلله القطر" . وإن مما يبعث الأسى تلو الأسى .. أن تمد ناظريك الى خصمين ، متناحرين ، يسعى كلاهما إلى الفتك بصاحبه ، والنيل منه ، وإلقائه في بحر متراكب الأمواج ، متلاطمها ، من الضيق ، والضنك ، والكيد .. خصمين كانا في الأيام المواضي ، والليالي الخوالي ، كما قال الاول :"أنا من أهوى ومن أهوى أنا .. نحن روحان حللنا بدنا"،، .. ثم تغير الحال .. ولم يشفع ( العيال ) ، وأصبح الأمر كما قال العرجيّ ، الشاعر : (( قد كان شيئا كان ثم انقضى )) . وفي الحق : إني لم أجد وصفا صادقا ينسحب على هذا المكان ـ على جلالته ومكانته ـ إلا أنه ( نار تلظــّى .. لا يصلاها إلا الأشقى ) . ( 1 ) حدث قاض شرعي ، أديب ، وهو يقص علينا جملة من الحوادث التي وقعت له ، وانتهت إليه : دخل عليّ أمس ـ بعدما انصرف كتّاب المحكمة ـ رجل كبير في السن ، يسحب رجليه سحبا ، ولا يستطيع أن يمشي من الضعف والكبر.. فسلم ، ووقف مستنداً إلى المكتب ، وقال: أنا داخل على الله ثم عليك..اسمع قصتي ، واحكم بالحق على من ظلمني. فأشرت إليه أن تفضل. قال: أحب أن أقص القصة من أولها: فأرجو أن يسعني صبرك ، ولا يضيق بي صدرك ، فأنا رجل لا أحسن الكلام من أيام شبابي ، فكيف بي الآن؟ وقد بلغت هذه السن ، ونزلت عليّ المصائب ، وركبتني الأمراض ، ولكني ـ مع ذلك ـ لا أحسن إلا الصدق ، ولا أقول إلا حقاً. ذكريات "كنت في شبابي رجلا مستورا ، أغدو من بيتي في حارة (؟؟؟) على دكاني التي أبيع فيها الخضار والفواكه ، فأربح قروشاً معدودات ، أشتري بها خبزي ولحمي ، وآخذ ما فضل عندي من الخُضر: فيطبخه أهل البيت ، ونأكله ، وننام حامدين ربنا على نعائمه ، لا نحمل هما ، ولا نفكر في غد. وما كان ينغص حياتي إلا أنه ليس لي ولد ، فجرّبنا (أنا وزوجتي) الوسائل ، وسألنا القابلات والعجائز: فوصفن لنا الوصفات ، فاتخذناها. وقصدنا المشايخ ، فكتبوا لنا التمائم: فعلقناها. فلم نستفد شيئا ، وفجأة ـ وبدون مقدمات ـ .. حملت زوجتي،، ولادة وصرت أقوم عنها بالثقيل من أعمال المنزل: لأريحها خشية أن تسقط حملها ، وصرنا نعدّ الأيام والساعات ، حتى كانت ليلة المخاض ، فسهرت الليل كله أرقب الوليد ، فلما انبلج الفجر: سمعت الضجة ، وقالت (الداية): "البشارة يا بوحسن، إجا الصبي" ولم أكن أملك إلا دينارا واحدا ، (رأس مالي) فدفعته إليها. وقلبنا الصبي في فرش الدلال ، إن ضحك: ضحكت لنا الحياة ، وإن بكى: تزلزلت لبكائه الدار ، وإن مرض:اسودّت أيامنا وتنغّص عيشنا. وصار ، إن طلب شيئا ، بذلنا في إجابة مطلبه الروح. الرحلة إلى باريس .. ودخل الولدالمدرسة ، وازدادت التكاليف ، فكنت أقدمها راضيا... ونال شهادة الثانوية العامة. فقلت لولدي أحاوره : وبعد ذلك ؟ أجاب الابن: أريد أن أذهب إلى أوربا. قلت: أوربا ، وما أوربا هذه؟ قال: إلى باريس. قلت: مستحيل ، وأصر وأصررت ، وناصرته أمه ، فلما رأتني لا ألين ، باعت سواري عرسها وقــُـرطيها (الحلق) ، وذلك كل مالها من حلي اتخذتها عدة على الدهر ، ودفعت ثمنها إليه ، فسافر على الرغم مني. وغضبت عليه ، وقاطعته مدة ، فلم أردّ على كتبه ، ثم رق قلبي ، وصرت أكاتبه وأساله عما يريد... فكان يطلب دائما. أرسل لي مئتي دينار... أرسل لي ثلاث مئة... فكنت أبقى أنا وأمه ليالي بطولها على الخبز القفار (الحاف) وأرسل إليه ما يطلب. وكان رفاقه يجيئون في الصيف وهو لا يجيء معهم ، فأدعوه: فيعتذر لكثرة الدروس ، وأنه لا يحب أن يقطع وقته بالأسفار. ثم ارتقى: فصار يطلب ألف دينار... وزاد به الأمر آخر مرة ، فطلب 1500دينار. تصور ـ يا سيدي ـ ما 1500دينار بالنسبة لخضري تجارته كلها لا يساوي ثمنها 200 دينار ، وربحه في اليوم دون الدينار الواحد، برقية مستعجلة .. فكتبت إليه بعجزي ، ونصحته ألا يحاول تقليد أصدقائه ، فإن أهلهم موسرون ، ونحن فقراء ، فكان جوابه برقيّة مستعجلة بطلب المال حالا. (ايه: ما إلك في الطويل).. بعت داري ـ وهي كل ما أملك في هذه الدنيا ـ بنصف ثمنها ، واستدنت الباقي من مرابْ جشع دلوني عليه .. وبعثت إليه ، وخبرته أني قد أفلست. وانقطعت عني كتبه بعد ذلك ثلاث سنوات ، ولم يجب على السيل من الرسائل التي بعثت بها إليه. كأس الذل ومر على سفره سبع سنين كوامل ، لم أر وجهه فيها.. بقيت بلا دار ، ولاحقني المرابي بالدين ، فعجزت عن قضائه: فأقام علي الدعوى ، وناصرته الحكومة عليّ: لأنه أبرز أوراقاً لم أدر ما هي، فسألوني: أأنت وضعت بصمة أصبعك في هذه الأوراق؟ قلت: نعم. فحكموا علي بأن أعطيه ما يريد وإلا فالحبس.. وكذلك كان ، حبست يا سيدي.. وبقيت (المرأة) وليس لها إلا الله ، فاشتغلت غسّالة للناس ، وخادمة في البيوت ، وشربت كأس الذل حتى الثمالة. الخروج من السجن ولما خرجت من السجن ، قال لي رجل من جيراننا: أرأيت ولدك؟ قلت: ولدي؟، بشّرك الله بالخير. أين هو؟ قال: ألا تدري يا رجل ، أم أنك تتجاهل؟ هو موظف كبير ، ويسكن مع زوجته ؟؟؟ داراً فخمة في الـ؟؟؟ . غرباء وحملت نفسي ، وأخذت أمه ، وذهبنا إليه ، وما لنا في العيش إلا أن نعانقه ، كما كنا نعانقه صغيرا ، ونضمه إلى صدورنا ، ونشبع قلوبنا منه بعد هذا الغياب الطويل.. قرعنا الباب: ففتحت الخادمة الباب ، فلما رأتنا: اشمأزت من هيئتنا ، وقالت: ماذا تريدون؟ قلنا نريد حسن. قالت:هو لا يقابل الغرباء في داره ، اذهبا إليه في عمله. قلت: غرباء يا قليلة الأدب؟، أنا أبوه وهذه أمه. تهديد بالقتل ، وما زلت أتبعه حتى علقت به مرة ، فهددني بالقتل إذا ذكرت لأحد أني أبوه ، وقال لي: ماذا تريد أيها الرجل؟ فلوس؟ أنا أعمل لك راتبا ، بشرط ألا تزورني ، وألا تقول إنك أبي. ورفضت ، يا سيدي ، وعدت أستجدي الناس ، وعادت أمه تغسل وتخدم حتى عجزنا ، وأقعدنا الكبر ، فجئت أشكو إليك ، فماذا أصنع؟؟ فقلت ( القاضي الأديب) للرجل: خبرني أولا ، ما اسم ابنك هذا ، وما هي وظيفته؟ فنظر إليّ عاتبا ، وقال: أتحب أن يقتلني؟ قلت: إن الحكم لا يكون إلا بعد دعوى ، والدعوى لا تكون إلا بذكر اسمه. قال: إذن: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله. وقام يجرّ رجليه يائساً... حتى خرج. ( 2 ) قال : كانت بنتا جميلة ، وكان أبوها واسع النعمة ، مبسوط اليد ، فنشًأها على الدلال ، وعلى أن تتمنى فتنال ، وأن تطلب فتعطى . خطبة فلما بلغت السابعة عشرة خــُـطبت ، فاعتل أبوها بصغرها ، فقال أبو الخاطب: ألا ترضى أن أجعلها مني بمثابة ابنتي ، وأن أسكنها معي في داري ، فتكون أبدا في سمعي وبصري؟ قال: بلى . أربعة عقد العقد ، وكان الزفاف.. وعاشت معهم. كانوا أربعة في الدار: الزوج ، وهو شاب رضي الخلق ، صادق الحب ، يريد لها الخير والإسعاد ، ولكنه لا يملك مع أبيه في الدكان عطاء ولا منعا ، ولا مع أمه في الدار أمرا ولا نهيا. أيام سود ولم يأت اليوم الأسود ، ولكنهم جعلوا أيامهم كلها ـ من خوفهم ـ سوداء.. وكانت في بيت أبيها تجد الطعام أمامها ، من الخبز إلى أفخر الحلوى ، ومن الفاكهة إلى السكاكر ، وكان أبوها إذا وجد منها ومن إخوتها عزوفا عن الطعام ، جعل لهم على الأكل مكافأة ، ليرغبهم فيه. فلما جاءت بيت زوجها: وجدت إقلالا من كل شيء ، إن جاءوا يوما بعلبة حلوى ، حفظوها في الخزانة ، وأقفلوا عليها كأنما هي علبة جواهر ، وإن هم وضعوها بين أيدي الضيوف: وضعوا عيونهم عليها ، وقلوبهم معها ، لا يمدون أيديهم إليها ، لعل الضيف تقصر يده عنها. وكانت قطع اللحم في بيت أبيها أكثر من حبات الفاصوليا ، فوجدت اللحم عندهم أخفى من نجم السـُّـها ، وكانت الفاكهة توضع في بيت أبيها على المائدة ، فمن شاء أكل ، فوجدت ظهور الفاكهة هنا أندر من ظهور قرص الشمس في بلاد اليانكي ، وإن هم شروها: فإنما يشترون الرخيص الفاسد الذي لا يؤكل ألم حبيس فتألمت لذلك ، ولكنها ما تكلمت ، وكانت قليلة الطعام ، شبعانة العين ، فلم تبال. وكانت مدللة لا تشتغل: لأن في بيت أبيها خادمتين ، فكلفت هنا خدمة الأسرة كلها ، يكومون لها الصحون الوسخة ، ويدخلون ليسمروا ، وتبقى هي في المطبخ لتغسلها ، لا يسمحون لها من أن تسخن الماء ، خوفا من كلفة التسخين ، فكانت أصابعها تحمر من الماء البارد في الشتاء القاسي ، فإذا دخلت وجدت المدفأة مطفأة توفيرا للنقود ، خوفا من اليوم الأسود. فتشققت يداها ، واسودت أظفارها ، واجتمع عليها من نقص الغذاء ، وزيادة التعب ، وفقد الاطمئنان والعطف ، فذهبت ، صحتها وذاب جسمها . نار الغيرة وكان زوجها يحبها ، من غير أن يقدر على إظهار حبه ، وعطفه عليها: لأن هذه العيون الست ، كانت أبدا مفتحة عليه ، ناظرة إليه ، مراقبة حركاته وسكناته ، لاسيما عيني عمته العجوز العانس ، الحاسدة ، الحاقدة ، التي لم تعرف يوما حب الزوج ، وسعادة الزواج ، فهي تريد أن تنتقم لنفسها من المجتمع ، بحرمان هذه الفتاة من الحب والسعادة ، فكانت تلازمها دائما ، لا تفارقها لحظة ، وكانت لها ولزوجها أشد من الرقيب على المحب ، وكانت أكبر من أخيها سنا ، وكانت كالمربية للزوج في صغره ، فاتخذت لنفسها حق النصح له في كبره: فكانت تنخر أبدا في قلبه نخر السوس ، إن رأته منح زوجته بسمة ، أو رقق لها كلمة ، عاتبته . مكر الشيطانة وكانت تنتظره حتى يجيء ، فلا يشكرها ، ولكنه يلومها ، ويستقبح عملها (الانتظار) ، وإن هو أطال السهر ليلة: فغلبها النوم ، جاءته الشيطانة - أي: العمة - فقالت: أرأيت كيف تهملك ولا تبالي بك، ولا تنتظرك كما تنتظر الزوجات رجالهن؟ فزادت نقمته عليها. كانت البنت تحاول أن تشكو إلى أبيها ، أو أن تخبر أمها ، فلا تستطيع أن تنفرد بهما: لأنهم لا يدعونها تذهب إلى أهلها وحدها ، لا تذهب إلا ومعها زوجها ، أو معها هذه العمة التي تظهر لها - من مكرها - أمام أهلها ، أشد الحب ، وأكثر الحنو ، وإذا رأوها هزيلة وسألوها: قالت: إنها لا تأكل..عجزنا عن إقناعها بوجوب الغذاء ، فيصدق أهلها. وكانت البنت تكتم ألمها في نفسها ، لا تجد من تشكو إليه ، فتنفرد في غرفتها تبكي ، حتى تبلل بدموعها وسادتها ، إلى أن يغلبها النوم. موزعو البريد ثم وسوس إليهم الشيطان ، فبيتوا أمرا ، فبدلوا معاملتها فجأة ، وصاروا يخصونها بالرعاية ، ويلينون لها القول ، ويقومون عنها ببعض أعمال الدار ، ويمدحونها بأنها هي المتعلمة ، الكاتبة ، القارئة ، ولم يكن ـ في العادة ـ يطرق بابهم طارق: لأنهم - لبخلهم - لا يزورون أحدا أبدا ، لئلا يزورهم فيكلفهم ثمن الضيافة ، فصار بابهم يطرق كل يوم،، يطرقه موزعوالبريد برسائل مسجلة ، فكانوا يجيئونها بالوصل لتمضيه: لأنها هي الكاتبة القارئة ، وكل من في الدار أميات: فكانت تسرّ بذلك وتفرح. وكانت يوما في المطبخ ، ويدها في جلي الصحون ، فسمعت قرع الباب ، فجاءت العمة مسرعة ، قالت: خذي (الله يرضى عليك) امضي هنا ، قالت: ألا ترين يدي في الصابون ، انتظري حتى أغسلها ، وأقرأ ما في الورق ، فقالت لها: الرجل لدى الباب ، امضي ، وبعد ذلك تقرئين ما فيها ، وماذا يكون فيها؟ إنه إيصال بريد كغيره من الإيصالات. فمسحت يدها ، وأخذت الورقة ، وكانت مثنية لا يظهر ما فيها ، فوقعت حيث أشاروا إليها. بكاء موجع ..ساءت معاملتهم لها فجأة ، كما حسنت فجأة ، وعادوا أفظع مما كانوا عليه ، وشاركهم زوجها ، وانقلب معهم عليها ، وكانت حاملا في شهرها الأخير ، فأرادوا أن يتخلصوا من تكاليف الولادة: فطردوها إلى بيت أبيها. وعجب لما رآها داخلة عليه ، وأسرع يلومها ، ويقول لها: ما هذا العمل ، ومتى كان (الحرد) من شمائلنا؟ وأيدته أمها ، لأنهما لم يكونا يعرفان شيئا من حال أحمائها ، فانطلقت تبكي بكاء موجعا ، يقطع القلوب ، وتقص عليهما قصتها من خلال دموعها. وطيب أبوها خاطرها ، وأولاها ، من قلبه ومن ماله ، ما ضمد جراحها ، وفتحت لها أمها صدرها ، ومشت الوسائط بين الفريقين ، فإذا بيت الأحماء يقلبون لها ظهر المجن ، ويجاهرون بالعداوة ، ويكشفون عن حقيقتهم التي كانوا يخفونها وراء ستار التصنع والنفاق ، فيئس أهل البنت ، وطلبوا أن يطلقها الزوج ، ويؤدي إليها حقوقها ، ويرد عليها جهازها. قالوا: هيهات، حقوقها وصلت إليها ، لقد قبضت مهرها كله ، معجله ومؤجله ، وسند القبض بأيدينا ، أما الجهاز فهو لنا ، نحن اشتريناه،، ثقة،، وكانت قصة الجهاز أن بيت الأحماء ، من مكرهم ، قد عرضوا على الأب أن يتولوا هم شراء الجهاز واختياره ، ورضي أبوالفتاة ، فاشتروه ، وهو الذي دفع الثمن ، ولكن كانت ورقة الإيصال بأسمائهم ، وكانت بأيديهم. وأما المهر ، فإن الورقة التي جاءوا بها إليها لتمضيها ، وزعموا أنها وصل البريد ، فكانت سندا بوصول المبلغ إليها ، وكانت قصة رسائل البريد التي ترد كل يوم قصة مصطنعة اتخذوها تمهيدا للذي أرادوه وبيتوه . وأقيمت الدعوى ، ووكل أبو البنت محاميا قديرا ، ودفع له أجرا وفيرا ، وبذل له المحامي جهده ، ولكنهم عجزوا عن الإثبات ، فطلبوا تحليف اليمين كذبا وبهتانا ، وخسرت البنت دعواها ، فخرجت بلا زوج ولا مهر ولا جهاز ، ولم ببق معها إلا ابنتها التي ولدتها. الفصل الأخير ومرت الأيام ، وكانت الأم تجد أنسها ببنتها ، جعلتها هي حظها من دنياها ، وقنعت بها ، ووقفت نفسها عليها ، وبلغت البنت العلشرة: فجاء الأب يطلبها. وكان قد تزوج ، ورزق بولدين ، فتجددت للأم المسكينة أحزانها كلها ، وعادت مأساتها التي حسبتها قد طواها النسيان ، وأصبحت تشعر بأن فراق روحها أهون عليها من فراق ابنتها.. وجاء اليوم الموعود ، يوم المحاكمة.. وصدر الحكم بتسليم البنت إلى أبيها. خارج أسوار المحكمة أخذ الأب البنت ، وأراد أهله مبالغة في الكيد والانتقام ، أن يخرجوا في نزهة ليفرحوا في يوم مأساة الأم ، ويضحكوا في يوم بكائها ، وكانت للزوج سيارة اشتراها من مال المسكينة ، فأخذ أباه وأمه وعمته وزوجته الجديدة ، وبنته الأولى التي أخذها من أمها وسافر إلى ؟؟؟. وكان حديثهم طول الطريق عن الزوجة الأولى (أم البنت) والسخرية بها ، والبنت المسكينة تسمع ، لا يدركهم خوف الله ، فيكفوا عن غيبة الغائبة ، وظلم البريئة ، ولا رحمة الإنسان: فيرعوا عواطف هذه الطفلة التي انتزعوها من أمها. وبلغ بهم الكبر والجبروت الغاية ، فكان من فرحه ونصره يسابق السيارات ، فكلما رأى سيارة أمامه أسرع حتى يسبقها ، فرأى صهريجا مسرعا ، فقالوا له : قف حتى يمر ، قال: لا ، إني أسبقه إلى المنعطف: فقد صارت لي خبرة بالخلاص من المآزق ، أما تخلصت من تلك المرأة : فأخرجتها (إيد من قدام وإيد من ورا) ، بلا مال ولا جهاز ، ثم نزعت منها ابنتها؟ وقهقه ضاحكا ، وكان قد صار بجنب الصهريج ، ووقعت المأساة.. واختلط اللحم بالدم ، إلا من كان برئ الساحة (الزوجة الجديدة والأولاد الذين لا ذنب لهم) ، فقد خرجوا سالمين ، ما أصابهم كبير أذى ، إلا جروحا يسيرة: أما الذين اشتركوا في الجريمة ، وأقام عليهم أبوالفتاة المظلومة الدعوى في محكمة الله: فكان هذا مصيرهم، ، وأسدل الستار ....