رجائى عطية يروى لنا المرحوم الأستاذ صبرى أبو المجد, فى مجلداته الضافية عن سنوات ما قبل الثورة ــ جانبًا عن قضاة مصر ومحاميها، كونهما مفخرتين لمصر، ويبدأ بإبراهيم الهلباوى . ليسجل له أن تاريخ المحاماة فى مصر، بل فى العالم كله، لم يعرف محاميًا ارتفع بالمحاماة ورفعته المحاماة إلى القمة، كما كان الأمر بالنسبة لإبراهيم الهلباوى. كما أن تاريخ المحاماة فى مصر بل فى العالم كله، لم يعرف محاميًا تحمّل كل ألوان الظلم والاضطهاد وقسوة الحياة بسبب اشتغاله بالمحاماة كإبراهيم الهلباوى. وقد تراءى له ذات يوم أن من واجبه كمحام أن يقبل مهمة المدعى العمومى فى قضية دنشواى التى جرت أحداثها فى 13 يونيو 1906، فكانت الغلطة الكبرى التى جرّت عليه لقب جلاد دنشواى فى منظومة شاعر النيل حافظ إبراهيم عن دنشواى. لم يستطع الهلباوى بعد موقفه هذا الذى لم ينسه المصريون له، بينما نسوا موقف بطرس باشا غالى رئيس المحكمة التى قضت بإعدام أربعة، وبعقوبات عنيفة على الباقين، وعضو المحكمة أحمد فتحى زغلول. لم يستطع الهلباوى أن يشهد بعدها أى احتفال عام، أو محاضرة عامة، وقد كان شباب المصريين يتعقبونه فى كل مكان بالهتاف ضده، ويطلقون وراءه الحمام إشارة لأحداث دنشواى، وحورب الرجل محاربة عنيفة حتى كاد يغلق مكتبه بعد أن أحجم أرباب القضايا عن اللجوء إليه رغم معرفتهم بقدراته الفائقة كمحامٍ فذ. أمضى الهلباوى حياته يحاول التكفير عن هذه الغلطة، وتتابعت القضايا الوطنية التى تبناها وترافع فيها، وإذا به أبرز المحامين الوطنيين فى الدفاع عن إبراهيم الوردانى فى قضية اغتيال رئيس النظار بطرس باشا غالى. ويكون موقفه فيها من الروعة حتى عاشت كلماته فى ذاكرة الناس لأكثر من قرن من الزمان. بعد أن أنهى الأستاذ الهلباوى مرافعته عن إبراهيم الوردانى، المتهم باغتيال رئيس النظار بطرس باشا غالى، لأسباب سياسية لا طائفية، وأدرك بحسه وفراسته العالية فى المحاماة، أنه لا مناص من الحكم على الجانى بالإعدام، فهذا حكم الشرع والقانون والعدالة على السواء، ومن ثم حرص أن يؤبنه قبل إعدامه، وأن يودعه وداعًا فيه عبرة وعظة. من حصافته أنه اتجه بكلمته إلى المحكمة، بينما كان قلبه ولسانه ــ فيما روى بمذكراته ــ نحو المتهم، فالكلمة الأخيرة فى مذكرة دفاعه المكتوبة، تشهد بما كان يملأ نفسه من الإكبار والإجلال لذلك الشاب الذى ضاع ضحية اعتقاده بأنه يخدم وطنه. وقف الهلباوى يقول للمحكمة: لقد أمضيت خمسًا وعشرين عامًا فى المحاماة دون أن أسائل نفسى لماذا اختير للمحامى رداء أسود, بينما اختير للقاضى شعارٌ أخضر يزين به صدره. والآن فقط أدركت هذا السر، أدركته والقلق يعذبنى بسبب هذه القضية، أدركته وأنا أشعر بما يشعر به المتهم نفسه، وأحس بما تحس به أمه وأخته من الفزع والاضطراب، وهما فى الواقع فى حالة حداد، الحداد الذى يتمثل فى هذا الرداء الذى ارتديه بين أيديكم، أنتم الذين تمثلون بشعاركم الأخضر الرحمة والعطف، بل إن هذا اللون ليوحى إلى نفوسكم أن الإنسان مهما عظمت خطيئته فعندكم من الرحمة ذخيرة لا تنفد. أنتم فى الواقع: رسل الرحمة على الأرض، رسالتكم شبيهة برسالة القديسين الذين يضرعون إلى الله أن ينشر فوق البشر رحمته وغفرانه، وأنتم من غير شك تدركون أنه من العسير على الإنسان أن يكون دائمًا بمنجاة من الخطأ أو تكون حياته كلها نقية كحياة الملائكة، فإن توسلنا إليكم أن ترحموا هؤلاء البشر الذين يتردون فى الخطيئة، فلا تضيعوا توسلاتنا هباء، بل تقبلوها كما يتقبلها الله الذى انتخبتم بإرادته لأداء هذه المهمة المقدسة التى تؤدونها. ثم أضاف.. الآن لى كلمتان أوجههما إلى المتهم بين يدى القاضى: الأولى، أنى إذا كنت قاسيًا عليه فى نعته فلأنى خاضع لقانون ليس دائما ملتئما فى أحكامه مع ما توحى به الذمة والضمير، لأنه مضطر فى أحوال كثيرة ـ رعاية لسلامة المجتمع البشرى وصيانته ـ أن ينظر نظرًا آخر فى تعريف الحـلال والحـرام، ونحن المحامين أحق الناس بالأدب والخضوع لهذا القانون، فإذا قبل الدفاع عذرك أيها المتهم وعرضه على قاضيك، فعليك أنت أيضاً أن تتقبل قبولاً حسنا عذر الدفاع فيما خالفك فيه من عقائدك السياسية. الثانية: أنى إذا أنزلتك منزلة المجرمين العاديين وطلبت لك الرحمة والغفران، فلأن ذلك واجب أيضاً يقتضيه الدفاع، ولكن إذا أبت نفسك أن تعيش بين السلاسل والأغلال، وأن تعيش معاملاً معاملة الأشقياء وقطَّاع الطريق، فارفع نفسك عن هذا السبيل, واقبْل نبال الموت بقلب البواسل، فالموت آت لا راد له إن لم يكن اليوم فغدًا.. اذهب مودعًا منا بالقلوب والعبرات. اذهب فقد يكون فى موتك بقضاء البشر عظة لأمتك أكثر من حياتك. اذهب فإن قلوب العباد إذا ضاقت رحمتها عليك فرحمة الله واسعة! أٌعْدِمَ الشاب القاتل، وتوفى الهلباوى بعد ثلاثين عامًا، بيد أن كلماته تلك عاشت فى ضمير المحاماة والمحامين، آية فى البلاغة والتأثير، دون أن تفقد حق المنطق والعدالة. لا بأس به أن يطلب للمتهم الرحمة، ولكنه يدرك أنها بعيدة المنال فى هذا المشهد، ومن ثم كانت كلمة الوداع حاملة رسالة بليغة فى كل ما أثارته القضية التى أقضت مصر، من اعتبارات!